عودة "القدر المتجلي"- ترامب و إحياء الهيمنة الأمريكية بنسخة معاصرة

المؤلف: أحمد الدبش09.06.2025
عودة "القدر المتجلي"- ترامب و إحياء الهيمنة الأمريكية بنسخة معاصرة

في بداية ولايته الرئاسية الثانية، وخلال خطابه الذي ألقاه بمناسبة تنصيبه في 20 يناير/كانون الثاني، صرّح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بكلمات واثقة: "ابتداءً من هذا اليوم، ستشهد بلادنا ازدهارًا منقطع النظير وستنال احترامًا متجددًا في جميع أصقاع المعمورة. سنصبح محط أنظار الأمم، ومثار حسدها، ولن نسمح بعد اليوم لأي كان باستغلالنا. وطوال فترة إدارتي، سأضع نصب عيني هدفًا واحدًا وبمنتهى البساطة: أمريكا أولًا".

ثم أردف قائلًا: "سيتم استعادة سيادتنا كاملة، وسيعود الأمن والأمان إلى ربوع وطننا، وستتحقق العدالة الناجزة. وستكون أولى أولوياتنا بناء أمة شامخة، ومرفهة، وحرة. ستغدو أمريكا قريبًا الدولة الأعظم، والأقوى، والأكثر تفوقًا على مر العصور".

وأضاف بنبرة حاسمة: "من هذه اللحظة فصاعدًا، أعلن نهاية تدهور أمريكا". وأكد قائلًا: "لقد قيضني الله لأعيد لأمريكا عظمتها الغابرة". كما أعرب عن طموحه في تعديل "اسم خليج المكسيك ليصبح خليج أمريكا"، وكشف عن عزمه على "إرسال رواد فضاء أمريكيين لغرز العلم الأمريكي على سطح كوكب المريخ". واختتم كلمته مؤكدًا: "إننا شعب واحد، وعائلة متحدة، وأمة نبيلة واحدة تحت ظل الله".

إلا أن التصريح الذي أثار أكبر قدر من الجدل كان ذلك الذي أدلى به في نهاية شهر يناير/كانون الثاني من عام 2025، حين أفصح ترامب في حوار صحفي عن نيته استعادة قناة بنما، قائلاً بوضوح وصراحة: "نحن من قمنا ببنائها، ونحن من دفع ثمنها، ولن نتخلى عنها أبدًا" (رويترز-2025).

كما أشار تلميحًا إلى إمكانية ضم كل من غرينلاند وكندا، قائلاً: "غرينلاند أرض بكر، تزخر بالموارد الطبيعية الوفيرة، وهي أقرب إلينا من بعض ولاياتنا الداخلية" (أسوشيتد برس 27 يناير/كانون الثاني 2025).

من خلال هذا الخطاب، بعث ترامب من جديد مفهومًا أيديولوجيًا راسخًا في تاريخ أمريكا السياسي، ألا وهو مفهوم "القدر المتجلي" (Manifest Destiny)، الذي ظهر في أربعينيات القرن التاسع عشر، وتحول إلى عقيدة قومية تبرر التوسع الإقليمي تحت ستار "الإرادة الإلهية".

إن إعلان ترامب عن أن "العصر الذهبي لأمريكا قد بدأ الآن"، وعن غرز العلم الأمريكي على سطح المريخ، لم يكن مجرد دعاية انتخابية عابرة، بل كان إحياءً لواحد من أخطر المعتقدات الأمريكية: "القدر المتجلي"، الذي يسوغ التوسع الإمبراطوري باسم "الإرادة الإلهية".

جذور الفكرة: من الإبادة إلى الإمبراطورية

تعود جذور فكرة "القدر المتجلي" إلى الصحفي الأمريكي جون أوسوليفان، في عام 1845، الذي دعا الأمريكيين إلى أن يعتبروا أنفسهم شعبًا مختارًا من قبل العناية الإلهية، ومكلفين بنشر الحضارة (وفقًا للرؤية الغربية البروتستانتية الأنجلوسكسونية) في جميع أنحاء القارة الأمريكية، ثم إلى العالم بأسره.

وبموجب هذا التصور، فإن "القدر" قد حدد غايته واختار "البيض الأنجلوسكسون البروتستانت" كحاملي هذه الرسالة، ومنحهم القدرة على الهيمنة على الأراضي التي يقطنها الهنود أولًا، ثم التوسع خارج الحدود الجغرافية الطبيعية. إن "القدر"، كما تصوره أوسوليفان، يجب أن يُرسم بخط مستقيم يقود نحو مستقبل تتزعمه أمريكا كقوة منقذة ومهيمنة.

وعلى الرغم من أن هذه العقيدة صيغت في خطاب سياسي وعلماني، إلا أنها حملت في طياتها جوهرًا استعلائيًا عرقيًا ودينيًا، إذ قدمت فكرة مفادها أن الرب قد فضل "البيض الأنجلوسكسون البروتستانت"، وجعلهم "شعبًا مختارًا فوق جميع الشعوب"، مما ساهم في تبرير الإبادة الجماعية ضد السكان الأصليين، والتوسعات الأمريكية مثل شراء لويزيانا (1803)، وضم تكساس (1845)، والحرب مع المكسيك (1846-1848)، وضم كاليفورنيا، وأريزونا، ونيو مكسيكو، وصولًا إلى غزو الفلبين، وهاواي، وبورتوريكو في أواخر القرن التاسع عشر.

وهكذا، تحولت هذه الفكرة إلى غطاء أيديولوجي يخفي الطموحات التوسعية خلف ستار أخلاقي زائف، يجمع بين التفوق العرقي والإرادة الإلهية.

على خطى أوسوليفان

لم يكتف ترامب، في إحيائه لهذا المفهوم، بالرمزية المجردة، بل استخدم مفرداته بشكل مباشر: التوسع في الفضاء، وإعادة تسمية جغرافيا الآخرين، وتجديد مفاهيم السيطرة القومية.

قد تبدو هذه التصريحات ذات طابع شعبوي، إلا أنها تعيد إنتاج خطاب أمريكي تقليدي يرى في بلاده قوة استثنائية، لا تخضع للمعايير العالمية المرعية، بل تعيد تشكيلها وفقًا لرؤيتها الخاصة.

وعلى الرغم من أن تطبيق هذه الفكرة قد بدأ قبل تأسيس الدولة الأمريكية نفسها، فإن إضفاء الطابع الفكري عليها عبر مبدأ "القدر المتجلي" قد منح الساسة لاحقًا غطاءً لشرعنة سياسات الغزو والهيمنة، أو العزلة الانفرادية عند الحاجة.

واليوم، لا يُنظر إلى "القدر المتجلي" على أنه مجرد ذكرى تاريخية باهتة، بل كنهج حيوي يعود بصيغة جديدة في الإدارة الأمريكية الحالية. ويتجلى هذا الحضور بجلاء في كتاب (American Crusade: Our Fight to Stay Free) لوزير الدفاع الأمريكي بيت هيغسيث، حيث يظهر الامتداد الأيديولوجي الواضح للفكرة، وإن لم تُذكر بالاسم صراحةً.

إن مفاهيم الهيمنة، والسيطرة، واستعادة مؤسسات الدولة الحيوية (كالتعليم، والقضاء، والإعلام…) من "اليسار العدو"، كلها تتجسد بوضوح في مضمون الكتاب، لتصبح العقيدة القديمة أداة حديثة لإعادة "أمركة أمريكا"، وتطهيرها من كل ما لا ينسجم مع النموذج المحافظ والإنجيلي الذي يتبناه.

النسخة الترامبية

إلا أن النسخة الترامبية من هذه الفكرة تنأى بنفسها عن الغطاء الأخلاقي التقليدي الذي استخدمته الإدارات السابقة كذرائع لتدخلاتها المتعددة. فبدلًا من التغني بالشعارات البراقة حول "حقوق الإنسان" أو "نشر الديمقراطية"، يصرح ترامب بجرأة بأن الغاية الحقيقية هي تحقيق المصلحة القومية العليا، وتعزيز القوة، وتوسيع الهيمنة.

وفي هذا السياق، يرى بعض الباحثين أن هذا التحول الجذري يعيد الولايات المتحدة إلى منطق الإمبراطوريات القديمة، حيث كان التوسع الإقليمي غاية نبيلة في حد ذاته، وليس مجرد وسيلة لتحقيق مبادئ عليا ومثل سامية.

ويقول المؤرخ الأمريكي البارز هاورد زين: "إن القدر المتجلي لم يكن أبدًا بريئًا، بل كان أداة إمبريالية خبيثة مغطاة بستار من الأخلاق المصطنعة"، ويبدو أن ترامب قد اتخذ قرارًا جريئًا بإزالة هذا الغطاء الزائف نهائيًا.

وبناءً على ذلك، فإن "القدر المتجلي" في نسخته الترامبية لا يتوقف عند الحدود الجغرافية المعروفة، بل يتعداها ليشمل الفضاء الخارجي، والتكنولوجيا المتقدمة، وربما الاقتصاد العالمي برمته.

إن الدعوة الصريحة إلى "استعادة" مناطق مثل كندا، وغرينلاند، تعكس تصورًا عميقًا للقوة لا يقوم فقط على النفوذ السياسي والاقتصادي، بل على الملكية المباشرة والسيطرة الكاملة. وكذلك، فإن تصريحه الجريء بأن على أمريكا أن تكون "سيدة الفضاء"، يعكس توجهًا واضحًا نحو عسكرة الفضاء الخارجي، في تحدٍّ صارخ للاتفاقات الدولية التي تمنع تحويل الفضاء إلى ساحة صراع عسكري محتمل.

إن هذا التوجه الأمريكي الجديد قد يسفر عن عواقب دولية وخيمة، من بينها تصاعد النزعة القومية المتطرفة في مناطق أخرى من العالم، واندلاع سباق تسلح محموم في الفضاء الخارجي، وعودة خطاب الاستعمار والضم إلى واجهة العلاقات الدولية.

وخلاصة القول: إن إحياء ترامب لمفهوم "القدر المتجلي" ليس مجرد خطاب بلاغي عابر، بل هو أداة سياسية فعالة تعكس فلسفة حكم متكاملة قائمة على السيطرة المطلقة والتفوق الدائم، وتعمل على إعادة صياغة الهيمنة الأمريكية بأساليب معاصرة تتجاوز حدود الزمان والمكان.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة